بقلم: سامي الأخرس
يبدو أن التاريخ لا يكذب ، وإنه يدون فصوله جيدا وهو يدرك أن أبوابه مشرعه للمستقبل ليعيد تجديد نفسه بحبر أكثر بريقا وورق أكثر نصاعة من السابق ، وإنه محتاج فعلا لإعادة صياغة بحروف أكثر اتضاحا ، ويدرك أن البشر مخلوقات متشابهة لا تتغير سوي بالشكل أي بالمظهر ، وأن حركته تدور فى فلك الأحداث الطبيعية والمتغيرات التي تتجاذبها الأحداث بتجلياتها وإحداثياتها . فهو التاريخ الذي يقصه علينا من سبقونا ونحن نقصه بدورنا على من سيتبعوننا وجميعنا فى دائرة التواصل جيلا يسلم جيل .
فى الماضي القريب وبالعودة لمرحلة السبعينات من القرن الماضي عندما رفعت منظمة التحرير الفلسطينية غصن الزيتون وجعلته شريكا ورفيقاً للبندقية فى معركتها التي خاضتها بعنوان التكتيك ضد المحتل ومقارعته بالتكتيك السياسي ، طرحت لنا شعار إقامة الدولة الفلسطينية على أي بقعة تحرر من الأرض المحتلة ، ورويدا رويدا سقطت البندقية وبقي غصن الزيتون ينتظر حمامة السلام أن تحط بأجنحتها المسافرة فى عالم الفتونة فوق الغصن وتحمله ليعم السلام هذه البقعة ويصبح لنا وطن نعيش فيه ، حيث لا زلنا نحن من يعيش فينا الوطن .
رفعت منظمة التحرير الفلسطينية غُصن الزيتون منذ العقد السابع من القرن الماضي ولا زلنا ننتظر بوابات السلام الموصدة أن تفتح وتُشرع للعبور منها لنقيم فلسطين الدولة المستقلة وعاصمتها القدس ، ويعود من اقتعلوا من ديارهم وأرضهم ، ولا زال البحث عن حياة كباقي الشعوب مستمر ، ورغم ذلك لم نحقق شيئاً ، ولم نتثبت بثوابتنا ، وأصبح غُصن الزيتون يحلم بدويلة أو شبه دولة إن جاز الوصف ، وتحولت أمانينا وأحلامنا لسلطة وطنية جُسدت مسمي وشكل ، ولم تُجسد معني وكيان يمتلك مقوماته الطبيعية للحياة . فولد ميتا .
القصد من هذا السرد هو العودة للأحداث السابقة واستذكار التاريخ السابق عندما بدأت منظمة التحرير الفلسطينية تبحث عن السلطة فقط ، وكيف أن قيادتها المتنفذة حينذاك كانت تتراقص طربا وفرحاً كلما ألمح أحد الأقطاب العالمية بضرورة الاعتراف بها ومفاوضتها ، وكيف كانت تكون الاستعدادات وتُصور لنا وكأنها منجز تاريخي وانتصار نضالي لا يضاهي إذا استعد أحد القادة الأمريكيون بإبداء موافقته واستعداده على الالتقاء بهم والتباحث معهم ، وإقامة البروتوكول التفاوضي . وكيف أن هذه اللقاءات والسياسات حرفت مسيرة منظمة التحرير الفلسطينية حتى أصبحت جسد محتضر يتنفس بروتوكولات وتكتيك فارغ نهايته الموت حتماً.
هذه الحالة لسنا بعيدين عنها اليوم فمنذ أن فازت حركة حماس فى الانتخابات التشريعية الأخيرة وصعدت إلى السلطة ، وما تبعها من ممارسات توجتها بانقلابها العسكري الفريد من نوعه فى الحالة الفلسطينية وهى تمارس الدرس السابق الذي مارسته قيادة منظمة التحرير وتخضع لنفس الممارسات والعقلية التي صورت لنا أن أسمي أهدافنا وطموحاتنا النضالية والكفاحية هي اعتراف العالم بوجودنا الحزبي واستعداده لعقد لقاءات معنا في أحد عواصم العرب أو غير العرب ، وبدأت حماس ما بدأت به منظمة التحرير حيث كانت البندقية اللغة الوحيدة فى التكتيك فأصبحت لغة شاذة لا مكان لها مع لغات العالم المتحضر فسقطت البندقية وبقي الاحتلال كما هو .
أما نحن فرفعنا سيف السلطة والحكم وأصبح هو الهدف والمبتغي المستتر مع الاحتلال ، وما مقاومته سوي اقتصار على مدي الخضوع لها حينما يداهمنا فى عقر ولايتنا الغزاوية أو مدننا في الضفة .
يبدو أن حماس ارتضت بقطعة الجبن الغزاوية واكتفت بها كنصيب وثمن ترضي شهوتها للقبض على منطقة تحكمها وتعمم بها تجربة الإخوان المسلمين الذين فشلوا في إقامة أي نوع من الحكم خلال العقود السابقة .
وتحولت تصريحات الإسرائيليين والغربيين بضرورة التفاوض مع حماس يعتبر إنجاز وانتصار على الأرض ، كما كانت سابقا تُحول حسب عقلية قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي قادت الثورة الفلسطينية ، وجاء لقاء كارتر واستعداده للتفاوض مع حماس ليؤكد هذه الحقيقة أن حُب السلطة والاعتراف من الآخرين هو ثمن التضحيات التي لا زال أهل غزة يُقدموها فى حصارهم ، والذي تحول لموت فى سبيل الصمود ، رغم أن هذا الحصار لم يتأثر منه سوي المواطن البسيط الذي أصبح مداساً لهؤلاء القادة الذين لم تختل موازينهم المعيشية ، ولم يتذوقوا الحرمان سوي بخطبهم ومؤتمراتهم الصحفية ، ولم يذهبوا لأعمالهم سيرا على الأقدام ، ولم يتجرعوا مرارة الموت لنقص الدواء والخدمات الطبية وغيرها .
إن القضية الفلسطينية أصبحت فى مهب الرياح كما كانت دوماً وهذا ليس بسبب سوي بلعنة الاستفراد وحكم الحزب الأوحد الذي هيمن على الثورة سابقا وحولها لضيعه ومطيه يحقق بها أطماعه الحزبية ، ومصالحه .
وها هي اليوم تتحول فلسطين مرة أخرى بأجمعها لضيعة ومطية لحزب أخر يمارس الاستفراد بها أو يتقاسمها مع الشريك الثاني رافضا كل معاني الشراكة ومفاهيمها ، وهذا ليس عيباً فيه ومأخذاً عليه وإنما العيب والمأخذ علي هذه الفعاليات الوطنية التي تعتبر نفسها خارج النسيج الوطني ، كما اعتبرت نفسها سابقا ، وتركت للآخرين حق التحدث باسم شعبنا وتحديد مصيرنا ومصير قضيتنا كيفما شاءوا .
فإن كانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية سابقا قد أوهمتنا بانتصارات دبلوماسيتها التي كُللت بأوسلو عام 1993 فماذا ستُكلل انتصارات دبلوماسية حماس التي بدأت بكارتر ؟!