اتخذ من ثرى القدس له سكنا.. بعد حكايا العشق التي اجتاحت روح ابن الشمال من آل العبيدات لتلك الديار، بحسب ذويه..
إحدى وأربعون سنة.. وتراب الأقصى يضم جسده الطاهر.. إحدى وأربعون سنة.. ودم الشهيد الأردني يروي أرض بيت المقدس حيث دُفن..
إحدى وأربعون سنة.. وكل ذرة في كيانه المادي تعانق قداسة المكان لتزداد شرفاً ورفعة وسموا..
إحدى وأربعون سنة.. خط خلالها الشهيد المقدسي «محمود محمد صالح الحكم عبيدات» صكوك الوحدة ومواثيق اللحمة بين أفراد شعب واحد غربي النهر وشرقيه..
فصول الحكاية يرويها لـ«السبيل» ابن الشهيد «عادل عبيدات» الذي فارقه والده وهو ابن سنة وسبعة شهور، يقول: «دفن والدي بعد استشهاده سنة 67 في قرية عناتا قريباً من بيت المقدس بعد أن سلم رفاقه جثته للإمام «محمد محمود موسى» إمام مسجد «عناتا» ليدفنه فيها.. وقد أوصى أبناءه بقوله: هذا الشهيد أمانة.. ليحرصوا على قبره ويحفظوه. قبل شهور من هذا العام عزم أبناؤه على توسعة منزلهم فهموا بحفر القبر لاستخراج الشهيد ودفنه في مكان آخر.. فرأوا ما لا يصدق.. جثمان الشهيد كأنه دفن لتوه.. لم يتغير فيه شيء.. الابتسامة تعلو شفتيه.. وجرحه ما زال يقطر دماً.. فاستغاثوا بالجيران وسلم للسلطات الأردنية منذ شهر.. وتأكدوا من دمه عن طريق إجراء فحوصات الـ( DNA ) في المدينة الطبية، على الرغم من أنه ما كان بحاجة لذلك فرقمه الحديدي لا يزال معلقاً في رقبته وهو (67734)..
وأضاف: ولم تسمح لنا القيادة برؤية جسده.. ورأيناه فقط في الصندوق أثناء مراسم التشييع..».
ويتابع.. «ولد والدي في 10/5/1935، والتحق بالجيش العربي وتسلم رشاشا لمجابهة الطائرات في الـ 67. بعد استشهاده وصلنا من رفيقه «فوزي صبيحات» ساعته وخاتم الزواج وكتاب من القيادة باستشهاده».
زوجة الشهيد «شريفة زياد عبيدات» (61 سنة)، استقبلت خبر نقل جثمان زوجها بمزيج من المشاعر المتضاربة ومزيج من دموع الفرح ودموع الحزن.. فتشييع جثمانه جدد في نفسها الأسى والألم.. وفي ذات الوقت زادها فخراً بصنيعه.. تقول لـ«السبيل»: «أتذكر لما كان عايش، اشلون يحكي واشلون يقول، واشلون يهدي على الناس.. كانت معاملته طيبة.. وكان يقوم بالليل.. ويظل يدعي ويقول: يا رب يرزقني الشهادة على ترابك يا فلسطين».
ثماني سنوات قضتها الحاجة شريفة مع زوجها لم تره خلالها إلا مرتين في كل شهر.. مضت كالحلم.. فقد تعلق قلبه بحب الجهاد.. وكانت المقاومة له الصديق والحبيب والخل..
عكفت الحاجة شريفة على ماكينة الخياطة لمدة 35 سنة، كعمل تمارسه، يساعدها في غياب معيلها ويكفيها مسألة الناس.. فالـ(7) دنانير التي كانت تحصل عليها من الجيش في الـ(67) ما كانت تكفيها وتحولت الآن إلى (72) ديناراً فقط!!.. هذا المبلغ الزهيد في هذا الوقت من الزمن ماذا يمكن أن يفعل؟!
«فوزي صبيحات» (أبو الحكم)، رفيق الشهيد عبيدات لحظة استشهاده.. حضر تشييع جثمانه الأربعاء الماضي.. ما انفك يذكر سجايا الشهيد.. «كان يصلي.. ما يقطع فرض.. مطيع.. محترم.. الكل يحبه جنودا وقادة ويظل يطلب الشهادة..».
هو الآخر يروي لـ«السبيل» فصلاً من فصول الحكاية، لكنه الفصل الأكثر تأججاً. يقول: «الشهيد محمود زميلي كنا في سرية واحدة.. وكتيبة واحدة. في فلسطين سنة 1967 اشتركنا في الحرب عند «شعفاط» على مشارف القدس تبعد عنها 300 متر. الساعة (10) أجانا أمر بالانسحاب.. نزلنا على الشهيد، كان يرمي على طيران ( L6 ) ومعه رشاش فيه 250 طلقة وهو يرمي على الطيارة. جاءته طيارة من الخلف ضربته بس ما تصاوب. انفجر الصاروخ بحده وانصاب بشظاياه في «رجليه» رجل إله راحت والثانية انكسرت وظلت معلقة...
«قال: لا تخليني يا أبو الحكم. انطيت سلاحي لزميلي وشلته على ظهري ومشيت فيه 700 متر ودمه ينزل على جسمي».
ويتابع: «قائد السرية نسيم الدباس شافنا وسألنا «مين هاظ؟» محمود صالح راح يجيب السيارة طلب الشهيد «مي» وبإيدي اليمين من المطارة صبيت وصرت أنقط في حلقه.
الضابط جاب سيارة عشان نوديه على اهله في الأردن، لحقتنا غارة جوية من 3 طيارات واتخبينا في مغارة وارجعنا على الشهيد والا قائد السرية يقول «الدايم الله.. استشهد محمد». كان مفتح عينيه حط إيديه عليها وسكرها. إذا حطيناه في أي سيارة عسكرية رح تكون مستهدفة، شفنا بلد قريبة تبعد كيلو عن مكاننا اسمها «عناتا».. رحنا للمسجد والشيخ وقتها عمره 78 سنة وحطيناه أمام المسجد وقلنا للإمام اعمل معروف ادفنوه, وطلب مني الضابط افتشه.. طلب محفظته.. فيها فلوس وصورة ولده ومرته.. وساعته وخاتمه..وخليت العقد اللي عليه رقمه الحديدي في رقبته بسته على راسه.. وقلت له: إنت يا محمود سبقتني على الشهادة. وقلنا للشيخ هاي أمانة عندك.. ادفنه في ساحة المسجد وبعد اسبوع وصله لأهله».
ويتابع: «بدلتي 4 أيام وأنا أنام فيها وعليها دم الشهيد وما شميت ليها ريحة مو زينة.. غسلت عمتي البدلة.. وكبت دم الغسيل على التراب وطلعت ريحة مثل الباخور».
فوزي صبيحات خدم في الجيش سنين طويلة وحرم من راتب التقاعد لأسباب لا يعرفها..
عبدالعزيز السيد، منسق الشبكة العالمية للمؤسسات العالمية للقدس.. بين أن كرامة الشهداء الذين نذروا أنفسهم للشهادة في القدس هو مؤشر ودليل ومحفز كي نستلهم منها جميعاً عظم مثوبة من نذر نفسه وروحه ودمه من أجل الحق العربي والإسلامي، وعلى وجه الخصوص في الشام وبالأخص في فلسطين وجوهرها القدس.
وينوه السيد إلى أن آل عبيدات قدموا الرجال النبلاء لأجل قضية الأقصى، ويكفيهم فخراً أن أول شهيد أردني على أرض فلسطين قبل ثلاثة أرباع القرن هو كايد مفلح عبيدات.
وهو لا يرى في تلك العطايا رسالة وحدوية بين الشعب الفلسطيني والشعب الأردني فقط.. بل أصلاً لا يوجد هناك شعبان وإنما هو وعلى امتداد التاريخ شعب واحد.. باستثناء حقبة الاستعمار البريطاني ومعاهدة سايكس - بيكو التي مزقت الوطن العربي إلى دويلات.. فهذه الحدود المصطنعة لا يمكن أن تتسلل إلى الضمائر العربية والقومية..
ويؤكد أن ابن الضفة بينه وبين ابن الرمثا صلة ونسب وأن الحدود التي يقيمها الاستعمار لا اعتبار لها في نفوسنا وصدق من قال «جاء الاستعمار فوضع الحدود.. وجاء الاستقلال فعززها بالجنود». وهذا لم يمنع أبناء الأمة في سنة 1948 وقبله في 1936 من الذود عن حياض الأقصى..
وقد ضرب السيد مثلاً بالقسام صاحب السرايا ومعسكرات الجهاد، الذي أتى من الشام إلى فلسطين ليعلمنا جميعاً أن الكفاح المسلح والمقاومة أسلوب للتحرير وطرد المحتلين لا بديل عنه.
وارتقى مئات الأردنيين شهداء على أسوار الأقصى بعد 67، وفي معركة الكرامة تلاحم الدم الفلسطيني والأردني ليؤكد أنهما شعب واحد.. ودم واحد.. وعرق وأصل واحد..
وفي بيان خاص بمناسبة تشييع شهيد الأقصى العبيدات -دعا المهندس ميسرة ملص، مقرر اللجنة الوطنية للأسرى والمفقودين الأردنيين الحكومة للعمل على كشف مصير بقية المفقودين الأردنيين والبالغ عددهم (25) مفقوداً، والسعي للإفراج عن الأسرى لدى الكيان الصهيوني والبالغ عددهم (27) أسيراً. كما طالب الحكومة بالإفراج الفوري عن الأسرى الأربعة القابعين في سجن قفقفا (سلطان العجلوني وسالم وخالد أبو غليون وأمين الصانع) الذين أفرجت عنهم سلطات الاحتلال في تموز من العام الماضي ضمن صفقة مع الحكومة الأردنية تقتضي باحتجازهم لمدة 18 شهرا على الأكثر.. ومن المقرر الإفراج عن الأسرى نهاية الصيف المقبل.
كما طالب البيان بضرورة قيام الحكومة بوضع قاعدة للمعلومات حول جميع المفقودين والأسرى والتواصل مع أهاليهم حتى تتضافر الجهود الوطنية لمعالجة قضيتهم.
ويذكر أن عمان تسلمت بعد توقيعها معاهدة السلام مع «إسرائيل» عام 1994، جثث أربعة جنود استشهدوا في حرب 1967، وبنقل جثمان العبيدات يصبح الخامس، في الوقت الذي ينتظر فيه ذوو المفقودين معرفة مآل أبنائهم المفقودين منذ واحد وأربعين عام.
من جهته يقول الدكتور عبد الحميد القضاة صاحب كتاب «الميكروبات وكرامات الشهداء» لـ«السبيل»: «زرت أهل الشهيد ونظرت إلى صورته وقابلت أبناءه، فكان الأمر بالنسبة لي ليس غريبا، وهو طبيعي أن لا تتحلل جثة الشهيد الذي يحارب في المعركة دفاعا عن المقدسات الإسلامية».
ويضيف: «هناك قصص كثيرة جدا عن شهداء في الانتفاضة تواترت الأخبار عنهم بخروج رائحة المسك من أجسادهم، وهناك شهداء حفظت أجسادهم».