والسؤال : هل يصبح الفرنسيون تحت تأثير الضغط والإرهاق الأكثر إدماناً على تناول المهدئات بين سائر الشعوب ؟
الشيء الوحيد الممكن استنتاجه هو أنه في البلدان الفرانكوفونية عموماً ، وفي بلجيكا وسويسرا وكندا يبتاعون كثيرا المهدئات . الكيبيك مثلا التي تؤلف ثلث الشعب الكندي تستهلك فقط نصف الأدوية المسكنة المباعة كل سنة في هذا البلد .
في فرنسا أصبح استعمال المهدئ من " الموضة " ، وفي عملية إحصاء لآلاف العمال في أحد المصانع ، ظهر أن 18% يأخذون مرة على الأقل بنزديازبين وهو من المسكنات الأكثر انتشارا في الأشهر الثلاثة الماضية .
وقد شمل الإحصاء الفئات الشابة بين سن العشرين والخمسين ومن هم بصحة جيدة . إن 18% يعتبر رقما كبيرا علما أن الكثير من الناس يأخذون الحبوب المهدئة ، إما في المساء للنوم أو بالنهار .
لماذا هذه الكثافة في الاستعمال ؟
البعض يشعرون بالقلق وبالإرهاق النفسي أو يعانون من ارتفاع في الضغط لقد جرت الأبحاث حول العلاقة بين استعمال المهدئات وظروف العمل الشخصية .
وأمام النتائج المذهلة والمتصاعدة أبدى وزير الصحة الفرنسي بعد جلسة لمجلس الوزراء دهشته حيال هذه النسبة المرتفعة فقدم مشروع قانون يقضي بحصر بيع المسكنات والطلب إلى الأطباء تحديد الوقت لتناول هذا العلاج .
لماذا هذا التضييق من قبل الوزير ومن قبل الصحافة ، ولماذا التركيز على سوء استعمال المسكنات …. لماذا هذا العقاب الظالم ضد هذا النوع من الأدوية التي تلبي الحاجة ، وهل يستطيع أحد التخلص من المهدئات ؟؟؟
العلاج الوحيد للكآبة .
قبل ظهور بنزديازبين في الستينات كان الدواء المنوم هو العلاج الوحيد للكآبة . الأطباء كان عليهم دائماً معالجة مآسي مرضاهم خصوصا عندما تتخطى درجة الكآبة ، وتدخل في الحياة الفردية الاجتماعية وتصبح دون مفعول سواء على الصعيد الجسدي كالأرق وبعض الاضطرابات القلبية ، الإحساس بالاختناق وغيره ، أو على الصعيد الأخلاقي خوف مرعب ، قلق ، مرض نفسي .
وكان لابد من الانتظار عدة سنوات لاكتشاف أن هذه الأدوية المهدئة تبرز عدة محاذير ، اضطرابات عقلية قد تؤدي إلى الجنون لأن تناولها في البدء يكون بسبب تخطي أزمة مستعصية وصعبة وتصبح فيها بعد من قبيل الإدمان ولا يمكن التخلي عنها فيكون الأرق والكآبة سيدي الموقف .
ومهما يكن فهناك شروط بديهية لاستعمال المسكن كتحديد الوقت المعين لاستعماله ومن ثم تعيين الكميات اللازمة .
وعلى الطبيب المعالج عند وصفه المسكنات لمريضه لفترة طويلة أن يشرح له النتائج التي يلمسها كالأرق والكآبة ونرى مرضى الأعصاب يساعدون من هم في وضعهم العصبي والنفسي دون أي إرشادات طبية دقيقة .
وأمام الكآبة نعطي إحساساً بالقلق النفسي المتواصل وبأرق معبر عن ثورة في النفس وبانهيار عصبي سلبي ينصح أطباء النفس باستعمال وسائل أخرى غير المسكنات .
أحد الأطباء يقول : " وعندما تبدأ حالة الكآبة الأكثر انتشاراً خصوصاً في حالة الانهيار العصبي يجب محاولة التقريب بين أسبابها ونتائجها .
وعليه فإن حالة القلق ليست إلا سببا لانهيار الأعصاب بطريقة أو بأخرى ومعالجة حالة الانهيار بأدوية مضادة لها تؤدي إلى اختفاء حالة القلق والكآبة وعندما تكون الكآبة هي السبب الأول لاضطرابات فعلية يجب البدء بمعالجتها. كل هذه المعالجات بالمهدئات تحارب الحالات التالية : الحزن والانكفاء والاضطراب العقلي .
لكن متى لا يؤدي القلق إلى درجة الانهيار العصبي ؟
لم تكن مقبولة طريقة " السمع المركز " من بعض الأخصائيين والتي تؤدي في بعض الأحيان إلى إزالة الحزن عن وضع ما . أما اليوم فهناك تقنيات حديثة ظهرت وتساعد على تفادي حالة الانهيار . فتشخيص حالة المريض وتصرفاته تعطي نتائج إيجابية وتؤدي إلى التخفيف من الاضطرابات وتكون فعالة في الأمراض العصبية من كل الأنواع وغيرها من المعالجات التي تركز على الوضع العقلي والتي تساعد بالسيطرة على المريض المتشنج الأعصاب .
وبالمطلق إذا كانت المهدئات مناسبة لبعض الحالات فهي لا تعطي أي فعالية بالنسبة لحالات عصبية متدهورة ومهما يكن من أمر يجب على الجميع أن ينتفض ويرمي المسكنات في سلة المهملات .
في اليابان العلاج الوحيد ضد الكآبة هو الكحول ، الويسكي والبيرة وخصوصاً في السهرات المسائية وبعد يوم طويل يقضيه الياباني في المصنع 500 ألف ياباني فقط يتناولون المهدئات كي يتمكنوا من متابعة أعمالهم اليومية في المصانع ، والبعض الآخر يستشير بصورة دورية الطبيب النفسي الموجود في مركز العمل .
مئات الآلاف من علب المهدئات تباع سنوياً في فرنسا وهي تتخطى في هذا المجال الولايات المتحدة وألمانيا أو أي بلد صناعي آخر . لكن البعض يبرر ذلك بأن الفرنسيين هم الأكثر استهلاكا لمعظم أنواع الأدوية في العالم .
من الملاحظات التي نسجلها على مثال هذا المقال - العينة نذكر التالية :
1- إنه مترجم عن مجلة شعبية يمكنها اعتماد مبدأ التهويل والترهيب .
2- إن كاتبه غير اختصاصي ، وكذلك مترجمة .
3- إن المنومات لم تختف من الصيدليات بل إننا لا نزال نشهد ظهور أصناف جديدة منها .
4- إن أحداً لا يعلم بأن القلق هو مصدر الانهيار العصبي . فالانهيار العصبي يمكنه أن يعود إلى جملة من الأسباب التي لا علاقة لها البتة بالقلق ، وإن كان القلق يرافق الانهيار في الغالب ولكن دون أن يكون مسببه .
5- يتساءل الكاتب لماذا هذا التركيز على سوء الاستعمال؟ وتأتي الترجمة بالجملة مبتورة ! إن المقصود بإساءة استعمال المواد هو استعمالها دون استشارة طبيب وبكميات تتجاوز تلك التي ينصح بها الأطباء لمدد طويلة . وهكذا فإن هذا التركيز ليس بالجديد وهو لا يتعلق فقط بالأدوية النفسية ولكنه يتخطاها إلى جميع الأدوية حيث يجب الالتزام بحدود الجرع التي يحددها الطبيب ، حيث يمنع استخدام الأدوية عشوائياً وبدون وصفة طبية .
6- يقول الكاتب : " قبل ظهور البنزوديازبين في الستينات كان الدواء المنوم هو العلاج الوحيد للكآبة …الخ" وهذا الكلام غير صحيح ، فمضادات الانهيار والمهدئات العظمى الفاعلة في علاج الانهيار كانت معروفة في الخمسينات وكانت مستخدمة في علاج الكآبة " .
7- نلفت النظر إلى أن البنزوديازيبين هي من فصيلة المهدئات مضادة للقلق وليست مضادة للإنهيار .
8- يقول الكاتب إن المهدئات تؤدي إلى الجنون ! فهل يقصد المخدرات ؟ نحن نوافقه بتحفظ إذا قصد هذا ، أما إذا كان قصده أن المهدئات البسيطة يمكنها أن تؤدي إلى الجنون فنؤكد له عدم صحة معلوماته وضرورة تنبيهه إلى خطورة إدعاءاته .
9- يقول الكاتب : " على المعالج أن يشرح للمريض النتائج التي يلمسها كالأرق والكآبة إلخ " ، مع أنه يقول في مقدمة المقال إن هذه المهدئات هي علاج الكآبة . ونحن هنا لا نعرف ما إذا كان الخطأ من الكاتب أو المترجم . ولكن على أية حال فإن علائم الاضطراب إنما تظهر لدى إيقاف استعمال هذه المهدئات دون إشراف طبي .
10- يقول الكاتب : " ومهما يكن من أمر ، يجب على الجميع أن ينتفض ويرمي المسكنات في سلة المهملات …الخ " . وهنا نقول بأنه لو كان ثورياً إلى هذا الحد فلماذا لا يدعو إلى إغلاق شركات الأدوية المنتجة لهذه الأصناف وإلى إلغاء اختصاص الطب النفسي وإصدار قانون يمنع من التوجه إلى العيادات النفسية … فبذلك يتمكن من حل المسألة بشكل جذري !!
وإذا كان زملاؤنا الفرنسيون يتغاضون عن مثل هذه المقالات استناداً إلى ثقافة الفرنسي التي تجعله صعب الإنقياد للتضليل واستناداً إلى خبرة هذا الإنسان وتجربته في العيادة النفسية .. وإذا كان هؤلاء الزملاء يرون في هذا المقال ترهيباً ( وإن يكن كاذباً ) فمن شأنه أن يحد من إساءة استعمال المواد في مجتمعهم ، فإننا لا نستطيع أن نقبل بمثل هذه الترجمات الرديئة لمقالات بمثل هذه الخطورة بالنسبة لمجتمعنا . فحبذا لو يعلم هذا المترجم كم من الأفراد يستقي ثقافته من الصحافة اليومية وهو يقدس الكلمة المكتوبة . وحبذا لو يعلم كم من الصعوبات والعوائق تنتج عن مثل هذه الترجمات . فإذا كان هدف العلاج النفسي الوصول بالفرد إلى المستوى الأفضل لسعادته ولكي ينفع مجتمعه ، فإن إعاقة هذا العلاج بنشر مثل هذه الإشاعات ( التي ربما تكون نافعة في مجتمعات أخرى ) لهي مسئولية كبيرة ، وبخاصة عندما تقترن بسوء الثقافة وسوء الترجمة وانعدام القدرة على الاستيعاب .
* الوجه الاجتماعي للمرض :
ثمة وجه آخر من الوجوه التي يهملها أدباؤنا وكتابنا الثقافيون ، ونقصد به موقف مجتمعنا من هذه الأمراض ، وهو موقف متمايز تبعا لنوع المرض ، بحيث نلاحظ إلصاق صفة الجنون بمجموعة متنوعة من الاضطرابات النفسية التي لا علاقة لها بالجنون ، في حين ينجو مجنون البارانويا من وصمة الجنون كما ينجو معه مريض الفصام العظامي والسلوك التشردي الفصامي . بل إن مجتمعنا يحيط بعض هؤلاء المرضى أحياناً بهالة من الغموض والماورائية . وهنا أجد من الضروري العودة إلى مؤلفات نجيب محفوظ وإشاراته المتكررة إلى هذه الحالات وموقف المجتمع منها ، ففي روايته حديث الصباح والمساء ، يتطرق محفوظ إلى كيفية إحاطة قاسم عمرو عزيز بهالة من الغموض والتصوف نتيجة لمواقفه (الناجمة أساساً عن إصابته بمرض الصرع ) الغامضة والمبهمة . بل إن محفوظ يصف لنا قدرة هذا المريض على استغلال هذه الوضعية استغلالاً مادياً جعله من المحظوظين مادياً في محيطه العائلي . وتتكرر هذه الإشارات في مؤلفات محفوظ فيعكس بعضها شخصية " مجنون الحي " وبعضها التفسيرات الشعبية لأسباب جنون بعض الشخصيات . ولكن هذه الإشارات بقيت ذات مستوى سطحي في تحليلها لهذه الشخصيات . كما يهمنا في هذا المجال مناقشة محاولة مميزة لمحفوظ ، عنينا بها همس الجنون ، حيث يوجه إدانة خفية إلى المجتمع وإلى بنيته .. وهو يطرح إشكالية الجنون بقالب يشبه إلى حد بعيد قالب المدرسة المعادية للطب النفسي كما أنها تقترب في بعض جوانبها من وجهات نظر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ، وبالرغم من عدم موافقتنا على هذه الطروحات فإننا نسجل سبقاً لمحفوظ وهو تحويره لصورة المجنون من إنسان مرعب مخيف وخطر إلى إنسان ذي خلفية صالحة وفكر قويم وضحية من ضحايا الفساد الاجتماعي . على أن هذا التحوير أصبح اليوم مدعما بعدد من الروايات والقصص والأفلام والمقالات والكتب التي باتت تتناول هذا الموضوع بطريقة أقرب إلى الواقع والحقيقة ، وإن كانت حمل في طياتها العديد من المغالطات بالنسبة لبقية الحقائق المتعلقة بالعيادة والممارسة النفسية كما أشرنا أعلاه .
ولكن ما هي الحلول التي يمكن اقتراحها أمام هذه الوقائع والمغالطات ؟ إنها ليست بالسهلة وهي تقتضي مشاريع ثقافية موسعة سنحاول عرضها في الفقرة التالية :
* الاقتراحات والحلول :
تلقى مسؤولية هذا الوضع على عاتق الثقافة العربية ككل . ومن هنا فإن مجمل الحلول التي يمكن اقتراحها تبقى ناقصة مالم تتكامل في مشروع ثقافي – عربي . فالمشاكل المعروضة في هذا الفصل لها معادلاتها في الميادين الأخرى ويكفينا هنا الإشارة إلى أننا نختار من الكتب العملية ما يلائم نزعاتنا ومن أمثلة ذلك ترجمة كتاب ليس في جيناتنا(6) التي أتت بعد سنوات طوال على صدوره بالإنجليزية ، ظهر خلالها من البراهين العلمية ما يدحض العديد من طروحات الكتاب وما يكفي للتأكيد على أثر الكتاب على أثر الجينات وأهميتها . مما يعني أنه " في جيناتنا " وليس " ليس في جيناتنا " . والمثقف العربي يقرأ اليوم هذا الكتاب على أنه الحقيقة ( أو حتى الحقائق ) العلمية المطلقة . وفيما يلي نعرض تباعا للاقتراحات التي نراها مناسبة لتخطي هذا الواقع ونبدأ بـ :
1- ضرورة قيام المدرسة العربية لعلم النفس والطب النفسي .
2- تشجيع تيار النقد النفسي في الأدب العربي .
3- استقاء الأمور من مصادرها . وهنا نذكر بأن فلوبير كتب رائعته مدام بوفاري انطلاقا من قراءته لنبأ انتحارها في إحدى الصحف ، فانطلق يدرس الحالة ويعاين الأمكنة حتى توصل إلى إخراج هذه التحفة التي خلدته .
4- ضرورة تدعيم المكتبة العربية وسد ثغراتها .
5- ضرورة العمل على إخراج التراث النفسي العربي إلى النور ، فهذا التراث إنما يحمل في طياته عناصر لا وعينا الجماعي وهويتنا النفسية التي نكاد نفقدها في بحر المشاكل المشار إليها أعلاه .
6- العمل على إصدار " سلسلة الرواية النفسية " التي تعمل على ترجمة الروايات النفسية الأجنبية والتعليق عليها بشكل يسمح للقارئ أن يفيد منها ولكن دون أن يقع في حبائل النقل العشوائي ومساوئه .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) مجلة الثقافة النفسية ، المجلد الأول ، العدد الثاني ، 1990
(2) مثلث في ثلاثة أفلام سينمائية هي psycho 1,11,111
(3) بسبكوسوماتيك الهيستيريا والوساوس المرضية ، بيروت ، دار النهضة العربية 1990
(4) مقالة نحو ضرورة قيام المدرسة العربية للطب النفسي ولعلم النفس " مجلة الثقافة النفسية ، العدد الأول 1990 .
(5) فيلم " من فضلك أعطني هذا الدواء .
(6) ترجمة سلسلة عالم المعرفة ، عنوانه الأصلي هو Not in Our Genes .
" من كتاب : نحو سيكولوجية عربية ، 1995 للمؤلف "